فصل: الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْخُلْعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.[الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ]: [فِي حُكْمِ مَنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ]:

وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ (فِي حُكْمِ مَنْ طَلَّقَ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ): فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:
مِنْهَا: أَنَّ الْجُمْهُورَ قَالُوا: يَمْضِي طَلَاقُهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا يَنْفُذُ وَلَا يَقَعُ. وَالَّذِينَ قَالُوا: يَنْفُذُ قَالُوا: يُؤْمَرُ بِالرَّجْعَةِ. وَهَؤُلَاءِ افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فَقَوْمٌ رَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ بَلْ يُنْدَبُ إِلَى ذَلِكَ وَلَا يُجْبَرُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ. وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا الْإِجْبَارَ اخْتَلَفُوا فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْإِجْبَارُ: فَقَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ: يُجْبَرُ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يُجْبَرُ إِلَّا فِي الْحَيْضَةِ الْأُولَى. وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ اخْتَلَفُوا مَتَى يُوقِعُ الطَّلَاقَ بَعْدَ الرَّجْعَةِ إِنْ شَاءَ، فَقَوْمٌ اشْتَرَطُوا فِي الرَّجْعَةِ أَنْ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ تِلْكَ الْحَيْضَةِ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ. وَقَوْمٌ قَالُوا: بَلْ يُرَاجِعُهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ تِلْكَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا: فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ. وَكُلُّ مَنِ اشْتَرَطَ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ لَمْ يَرَ الْأَمْرَ بِالرَّجْعَةِ إِذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ. فَهُنَا إِذًا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
أَحَدُهَا: هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟
وَالثَّانِيَةُ: إِنْ وَقَعَ فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ أَمْ يُؤْمَرُ فَقَطْ؟
وَالثَّالِثَةُ: مَتَى يُوقِعُ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْإِجْبَارِ أَوِ النَّدْبِ؟
وَالرَّابِعَةُ: مَتَى يَقَعُ الْإِجْبَارُ.

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ؟

]:
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ إِنَّمَا صَارُوا إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ إِنْ وَقَعَ فِي الْحَيْضِ اعْتُدَّ بِهِ، وَكَانَ طَلَاقًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا». قَالُوا: وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ طَلَاقٍ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَى نَافِعٍ يَسْأَلُونَهُ هَلْ حُسِبَتْ تَطْلِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: نَعَمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ الَّذِي كَانَ يُفْتِي بِهِ ابْنُ عُمَرَ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَ هَذَا الطَّلَاقَ وَاقِعًا فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ عُمُومَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ فِعْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». وَقَالُوا: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَدِّهِ يُشْعِرُ بِعَدَمِ نُفُوذِهِ وَوُقُوعِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: هَلِ الشُّرُوطُ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الشَّرْعُ فِي الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ هِيَ شُرُوطُ صِحَّةٍ وَإِجْزَاءٍ، أَمْ شُرُوطُ كَمَالٍ وَتَمَامٍ؟
فَمَنْ قَالَ: شُرُوطُ إِجْزَاءٍ قَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ الَّذِي عُدِمَ هَذِهِ الصِّفَةَ. وَمَنْ قَالَ: شُرُوطُ كَمَالٍ وَتَمَامٍ قَالَ: يَقَعُ، وَيُنْدَبُ إِلَى أَنْ يَقَعَ كَامِلًا، وَلِذَلِكَ مَنْ قَالَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجَبْرِهِ عَلَى الرَّجْعَةِ فَقَدْ تَنَاقَضَ، فَتَدَبَّرْ ذَلِكَ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [إِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ؟

]:
وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (وَهِيَ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ أَوْ لَا يُجْبَرُ؟
): فَمَنِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ الْأَمْرِ - وَهُوَ الْوُجُوبُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - قَالَ: يُجْبَرُ. وَمَنْ لَحَظَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الطَّلَاقِ وَاقِعًا قَالَ: هَذَا الْأَمْرُ هُوَ عَلَى النَّدْبِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [مَتَى يُوقِعُ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْإِجْبَارِ؟

]:
وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ (وَهِيَ: مَتَى يُوقِعُ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْإِجْبَارِ): فَإِنَّ مَنِ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِنَّمَا صَارَ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ لِتَصِحَّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَ الْحَيْضِ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَ الْحَيْضَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنَ الطَّلَاقِ الْآخِرِ عِدَّةٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ كَالْمُطَلِّقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَالُوا: إِنَّ مِنْ شَرْطِ الرَّجْعَةِ وُجُودَ زَمَانٍ يَصِحُّ فِيهِ الْوَطْءُ، وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَكُونُ مِنْ شُرُوطِ طَلَاقِ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُطَلِّقْ فِي الْحَيْضَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَحَدُ الشُّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ فِيمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِلَى مَا رَوَى يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ سِيرِينَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: «يُرَاجِعُهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ طَلَّقَهَا إِنْ شَاءَ». وَقَالُوا: الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِالرُّجُوعِ عُقُوبَةً لَهُ، لِأَنَّهُ طَلَّقَ فِي زَمَانٍ كُرِهَ لَهُ فِيهِ الطَّلَاقُ، فَإِذَا ذَهَبَ ذَلِكَ الزَّمَانُ وَقَعَ مِنْهُ الطَّلَاقُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ. فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَعَارُضُ مَفْهُومِ الْعِلَّةِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ]: [مَتَى يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ؟

]:
وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ (وَهِيَ: مَتَى يُجْبَرُ الزوج على مراجعة زوجته إذا طلقها في الحيض): فَإِنَّمَا ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى رَجْعَتِهَا لِطُولِ زَمَانِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الَّذِي لَهُ فِيهِ ارْتِجَاعُهَا.
وَأَمَّا أَشْهَبُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا صَارَ فِي هَذَا إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ فِيهِ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ». فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ كَانَتْ فِي الْحَيْضَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَمَرَ بِمُرَاجَعَتِهَا لِئَلَّا تَطُولَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضَةِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهَا بِإِجْمَاعٍ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُرَاجِعُهَا فِي غَيْرِ الْحَيْضَةِ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهَا أَطْولَ، وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعُدَ الْحَيْضَةِ. فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي عِلَّةِ الْأَمْرِ بِالرَّدِّ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْخُلْعِ:

وَاسْمُ الْخُلْعِ وَالْفِدْيَةِ وَالصُّلْحِ وَالْمُبَارَأَةِ كُلُّهَا تَؤُولُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ: بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا، إِلَّا أَنَّ اسْمَ الْخُلْعِ يَخْتَصُّ بِبَذْلِهَا لَهُ جَمِيعَ مَا أَعْطَاهَا، وَالصُّلْحَ بِبَعْضِهِ، وَالْفِدْيَةَ بِأَكْثَرِهِ، وَالْمُبَارَأَةَ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ عَلَى مَا زَعَمَ الْفُقَهَاءُ.
وَالْكَلَامُ يَنْحَصِرُ فِي أُصُولِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفِرَاقِ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ:
فِي جَوَازِ وُقُوعِهِ أَوَّلًا.
ثُمَّ ثَانِيًا: فِي شُرُوطِ وُقُوعِهِ (أَعْنِي: جَوَازَ وُقُوعِهِ).
ثُمَّ ثَالِثًا: فِي نَوْعِهِ (أَعْنِي: هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ؟
).
ثُمَّ رَابِعًا: فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي جَوَازِ وُقُوعِهِ:

فَأَمَّا جَوَازُ وُقُوعِهِ الخلع: فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ الْكُفْرَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟
قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً»
خَرَّجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. وَشَذَّ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَيْنِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} الْآيَةَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَأَمَّا بِرِضَاهَا فَجَائِزٌ. فَسَبَبُ الْخِلَافِ: حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ أَوْ عَلَى خُصُوصِهِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ وُقُوعِهِ:

فَإِمَّا شُرُوطُ جَوَازِهِ: فَمِنْهَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ.
وَمِنْهَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ.
وَمِنْهَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى الْحَالِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا.
وَمِنْهَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الْخُلْعُ مِنَ النِّسَاءِ أَوْ مِنْ أَوْلِيَائِهِنَّ مِمَّنْ لَا تَمْلِكُ أَمْرَهَا. فَفِي هَذَا الْفَصْلِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [الْقَدْرُ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْخُلْعُ]:

أَمَّا مِقْدَارُ مَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْتَلِعَ بِهِ، فَإِنَّ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ، وَجَمَاعَةً قَالُوا: جَائِزٌ أَنْ تَخْتَلِعَ الْمَرْأَةُ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَصِيرُ لَهَا مِنَ الزَّوْجِ فِي صَدَاقِهَا إِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا، وَبِمِثْلِهِ، وَبِأَقَلَّ مِنْهُ. وَقَالَ قَائِلُونَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ ثَابِتٍ. فَمَنْ شَبَّهَهُ بِسَائِرِ الْأَعْوَاضِ فِي الْمُعَامَلَاتِ رَأَى أَنَّ الْقَدْرَ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الرِّضَا. وَمَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ لَمْ يُجِزْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ رَآهُ مِنْ بَابِ أَخْذِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [صِفَةُ الْعِوَضِ]:

وَأَمَّا صِفَةُ الْعِوَضِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ يَشْتَرِطَانِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ شروط عوض الخلع، وَمَعْلُومَ الْوُجُوبِ. وَمَالِكٌ يُجِيزُ فِيهِ الْمَجْهُولَ الْوُجُودِ وَالْقَدْرِ وَالْمَعْدُومَ، مِثْلَ الْآبِقِ وَالشَّارِدِ وَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، وَالْعَبْدِ غَيْرِ الْمَوْصُوفِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ الْغَرَرِ وَمَنْعُ الْمَعْدُومِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: تَرَدُّدُ الْعِوَضِ هَاهُنَا بَيْنَ الْعِوَضِ فِي الْبُيُوعِ أَوِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْهُوبَةِ وَالْمُوصَى بِهَا. فَمَنْ شَبَّهَهَا بِالْبُيُوعِ اشْتَرَطَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبُيُوعِ وَفِي أَعْوَاضِ الْبُيُوعِ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْهِبَاتِ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَ الْخُلْعُ بِمَا لَمْ يَحِلِّ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ: هَلْ يَجِبُ لَهَا عِوَضٌ أَمْ لَا، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَسْتَحِقُّ عِوَضًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [الْحَالُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْخُلْعُ]:

وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْحَالِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْخُلْعُ مِنَ الَّتِي لَا يَجُوزُ: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ مَعَ التَّرَاضِي إِذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبُ رِضَاهَا بِمَا تُعْطِيهِ إِضْرَارَهُ بِهَا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. وَشَذَّ أَبُو قِلَابَةَ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَا: لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ الْخُلْعُ عَلَيْهَا حَتَّى يُشَاهِدَهَا تَزْنِي، وَحَمَلُوا الْفَاحِشَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى الزِّنَا. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطِ الْخَوْفِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَشَذَّ النُّعْمَانُ، فَقَالَ: يَجُوزُ الْخُلْعُ مَعَ الْإِضْرَارِ. وَالْفِقْهُ أَنَّ الْفِدَاءَ إِنَّمَا جُعِلَ لِلْمَرْأَةِ فِي مُقَابَلَةِ مَا بِيَدِ الرَّجُلِ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ لَمَّا جُعِلَ الطَّلَاقُ بِيَدِ الرَّجُلِ إِذَا فَرَكَ الْمَرْأَةَ، جُعِلَ الْخُلْعُ بِيَدِ الْمَرْأَةِ إِذَا فَرَكَتِ الرَّجُلَ. فَيَتَحَصَّلُ فِي الْخُلْعِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَصْلًا. وَقَوْلٌ إِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ (أَيْ: مَعَ الضَّرَرِ). وَقَوْلٌ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَ مُشَاهَدَةِ الزِّنَا. وَقَوْلٌ: مَعَ خَوْفِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. وَقَوْلٌ: إِنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا مَعَ الضَّرَرِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [صِفَةُ مَنْ يَجُوزُ لَهُ طَلَبُ الْخُلْعِ]:

وَأَمَّا مَنْ يَجُوزُ لَهُ الْخُلْعُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ: فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الرَّشِيدَةَ تُخَالِعُ عَنْ نَفْسِهَا، وَأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَخَالِعُ عَنْ نَفْسِهَا إِلَّا بِرِضَا سَيِّدِهَا، وَكَذَلِكَ السَّفِيهُ خلعه مَعَ وَلِيِّهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُخَالِعُ الْأَبُ عَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ كَمَا يُنْكِحُهَا وَكَذَلِكَ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ يُطَلِّقُ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ فِي الِابْنِ الصَّغِيرِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَخُلْعُ الْمَرِيضَةِ يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا كَانَ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ مِنْهَا، وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُهَا بِالثُّلُثِ كُلِّهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوِ اخْتَلَعَتْ بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا جَازَ، وَكَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنَ الثُّلُثِ.
وَأَمَّا الْمُهْمَلَةُ الَّتِي لَا وَصِيَّ لَهَا وَلَا أَبَ: فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجُوزُ خُلْعُهَا إِذَا كَانَ خُلْعَ مِثْلِهَا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُ الْمَالِكَةِ لِنَفْسِهَا، وَشَذَّ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ فَقَالَا: لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إِلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي نَوْعِهِ:

وَأَمَّا نَوْعُ الْخُلْعِ فسخ أم طلاق: فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ سَوَّى بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ فَسْخٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَدَاوُدُ وَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَإِلَّا كَانَ فَسْخًا، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ: إِنَّهُ طَلَاقٌ. وَفَائِدَةُ الْفَرْقِ: هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي التَّطْلِيقَاتِ أَمْ لَا؟
وَجُمْهُورُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ طَلَاقٌ يَجْعَلُهُ بَائِنًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ مِنْهُ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لِافْتِدَائِهَا مَعْنًى. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنْ لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ. احْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا بِأَنَّ الْفُسُوخَ إِنَّمَا هِيَ الَّتِي تَقْتَضِي الْفُرْقَةَ الْغَالِبَةَ لِلزَّوْجِ فِي الْفِرَاقِ مِمَّا لَيْسَ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الِاخْتِيَارِ فَلَيْسَ بِفَسْخٍ. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَهُ طَلَاقًا بِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الطَّلَاقَ فَقَالَ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ثُمَّ ذَكَرَ الِافْتِدَاءَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. فَلَوْ كَانَ الِافْتِدَاءُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ الَّذِي لَا تَحِلُّ لَهُ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّابِعُ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْفُسُوخَ تَقَعُ بِالتَّرَاضِي، قِيَاسًا عَلَى فُسُوخِ الْبَيْعِ: (أَعْنِي: الْإِقَالَةَ). وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ حُكْمَ الِاقْتِدَاءِ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ يَلْحَقُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ لَا أَنَّهُ شَيْءٌ غَيْرُ الطَّلَاقِ. فَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ اقْتِرَانُ الْعِوَضِ بِهَذِهِ الْفُرْقَةِ يُخْرِجُهَا مِنْ نَوْعِ فُرْقَةِ الطَّلَاقِ إِلَى نَوْعِ الْفَسْخِ أَمْ لَيْسَ يُخْرِجُهَا؟

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ:

وَأَمَّا لَوَاحِقُهُ: فَفُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، لَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا شُهِرَ: فَمِنْهَا: هَلْ يَرْتَدِفُ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ طَلَاقٌ أَمْ لَا؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْتَدِفُ إِلَّا إِنْ كَانَ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَرْتَدِفُ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْتَدِفُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: أَنَّ الْعِدَّةَ عِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَعَ الْمَبْتُوتَةِ أُخْتَهَا. فَمَنْ رَآهَا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ارْتَدَفَ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِفْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ فِي الْعِدَّةِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنْ رَدَّ لَهَا مَا أَخَذَ مِنْهَا فِي الْعِدَّةِ أَشْهَدَ عَلَى رَجْعَتِهَا. وَالْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ لَا يَكُونَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْجُمْهُورَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فِي عِدَّتِهَا، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَتَزَوَّجُهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فِي الْعِدَّةِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْمَنْعُ مِنَ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ عِبَادَةٌ، أَوْ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بَلْ مُعَلِّلٌ؟
وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْدُ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ فِي مِقْدَارِ الْعَدَدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْخُلْعُ فَقَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ بَيِّنَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ وَيَكُونُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، شَبَّهَ الشَّافِعِيُّ اخْتِلَافَهُمَا بِاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ مُدَّعًى عَلَيْهَا وَهُوَ مُدَّعٍ. وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَ مِمَّا يَلِيقُ بِقَصْدِنَا.

.الْبَابُ الرَّابِعُ فِي تَمْيِيزِ الطَّلَاقِ مِنَ الْفَسْخِ:

وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَسْخِ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ فِي الثَّلَاثِ إِلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ إِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ خَارِجٌ عَنْ مَذْهَبِهِ (أَعْنِي: فِي جَوَازِهِ)، وَكَانَ الْخِلَافُ مَشْهُورًا فَالْفُرْقَةُ عِنْدَهُ فِيهِ طَلَاقٌ، مِثْلُ الْحُكْمِ بِتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا وَالْمُحْرِمِ، فَهَذِهِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ هِيَ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ هُوَ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّفَرُّقِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَاجِعٍ إِلَى الزَّوْجَيْنِ مِمَّا لَوْ أَرَادَ الْإِقَامَةَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مَعَهُ لَمْ يَصِحَّ كَانَ فَسْخًا مِثْلَ نِكَاحِ الْمُحَرَّمَةِ بِالرَّضَاعِ أَوِ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُمَا أَنْ يُقِيمَا عَلَيْهِ مِثْلَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَانَ طَلَاقًا.

.الْبَابُ الْخَامِسُ فِي التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ:

وَمِمَّا يُعَدُّ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ مِمَّا يُرَى أَنَّ لَهُ أَحْكَامًا خَاصَّةً: التَّمْلِيكُ وَالتَّخْيِيرُ، وَالتَّمْلِيكُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ غَيْرُ التَّخْيِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّمْلِيكَ هُوَ عِنْدَهُ تَمْلِيكُ الْمَرْأَةِ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ، فَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَاحِدَةَ فَمَا فَوْقَهَا، وَلِذَلِكَ لَهُ أَنْ يُنَاكِرَهَا عِنْدَهُ فِيمَا فَوْقَ الْوَاحِدَةِ، وَالْخِيَارُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِيقَاعَ طَلَاقٍ تَنْقَطِعُ مَعَهُ الْعِصْمَةُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَخْيِيرًا مُقَيَّدًا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ أَوِ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ، فَفِي الْخِيَارِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَ لَهَا إِلَّا أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا أَوْ تَبِينَ مِنْهُ بِالثَّلَاثِ، وَإِنِ اخْتَارَتْ وَاحِدَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ، وَالْمُمَلَّكَةُ لَا يَبْطُلُ تَمْلِيكُهَا عِنْدَهُ إِنْ لَمْ تُوقِعِ الطَّلَاقَ حَتَّى يَطُولَ الْأَمْرُ بِهَا عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ يَتَفَرَّقَا مِنَ الْمَجْلِسِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَبْقَى لَهَا التَّمْلِيكُ إِلَى أَنْ تَرُدَّ أَوْ تُطَلِّقَ. وَالْفَرْقُ عِنْدَ مَالِكٍ بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَتَوْكِيلِهِ إِيَّاهَا عَلَى تَطْلِيقِ نَفْسِهَا: أَنَّ فِي التَّوْكِيلِ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهَا قَبْلَ أَنْ تُطَلِّقَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي التَّمْلِيكِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: اخْتَارِي وَأَمْرُكُ بِيَدِكِ سَوَاءٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، وَإِنْ نَوَاهُ فَهُوَ مَا أَرَادَ إِنْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً وَإِنْ ثَلَاثًا فَثَلَاثًا، فَلَهُ عِنْدُهُ أَنْ يُنَاكِرَهَا فِي الطَّلَاقِ نَفْسِهِ، وَفِي الْعَدَدِ فِي الْخِيَارِ أَوِ التَّمْلِيكِ، وَهِيَ عِنْدَهُ إِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا رَجْعِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ هِيَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي التَّمْلِيكِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: الْخِيَارُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِي التَّمْلِيكِ وَاحِدَةً فَهِيَ بَائِنَةٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: الْخِيَارُ وَالتَّمْلِيكُ وَاحِدٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ قِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي أَعْدَادِ الطَّلَاقِ فِي التَّمْلِيكِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مُنَاكَرَتُهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَعَطَاءٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ فِي التَّمْلِيكِ إِلَّا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ: لَوْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِكَ مِنْ أَمْرِي بِيَدِي لَعَلِمْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ، قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي بِيَدِي مِنْ أَمْرِكِ بِيَدِكِ، قَالَتْ: فَأَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، قَالَ: أُرَاهَا وَاحِدَةً، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، وَسَأَلْقَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، ثُمَّ لَقِيَهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: صَنَعَ اللَّهُ بِالرِّجَالِ وَفَعَلَ، يَعْمِدُونَ إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَيَجْعَلُونَهُ بِأَيْدِي النِّسَاءِ، بِفِيهَا التُّرَابُ، مَاذَا قُلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: قُلْتُ: أَرَاهَا وَاحِدَةً، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا قَالَ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَوْ رَأَيْتَ غَيْرَ ذَلِكَ عَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُصِبْ. وَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ التَّمْلِيكُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَا جَعَلَ الشَّرْعُ بِيَدِ الرَّجُلِ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى يَدِ الْمَرْأَةِ بِجَعْلِ جَاعِلٍ، وَكَذَلِكَ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ. وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُمَلَّكَةِ إِنَّ لَهَا الْخِيَارَ فِي الطَّلَاقِ أَوِ الْبَقَاءِ عَلَى الْعِصْمَةِ مَا دَامَتْ فِي الْمَجْلِسِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَجَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّمْلِيكَ إِذَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ كَالْوَكَالَةِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ مَتَى أَحَبَّ ذَلِكَ مَا لَمْ يُوقِعِ الطَّلَاقَ.
وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ لِلْقَضَاءِ بِالتَّمْلِيكِ أَوِ التَّخْيِيرِ، وَجَعْلِ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ تَخْيِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: (خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا). لَكِنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ يَرَوْنَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُنَّ لَوِ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ طَلَّقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَنَّهُنَّ كُنَّ يُطَلَّقْنَ بِنَفْسِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ. وَإِنَّمَا صَارَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ وَالتَّمْلِيكَ وَاحِدٌ فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ مِنْ عُرْفِ دَلَالَةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَنْ مَلَّكَ إِنْسَانًا أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ فَإِنَّهُ قَدْ خَيَّرَهُ.
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَيَرَى أَنَّ قَوْلَهُ لَهَا اخْتَارِينِي أَوِ اخْتَارِي نَفْسَكِ أَنَّهُ ظَاهِرٌ بِعُرْفِ الشَّرْعِ فِي مَعْنَى الْبَيْنُونَةِ بِتَخْيِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ الْبَيْنُونَةَ، وَإِنَّمَا رَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي التَّمْلِيكِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَلَاقًا إِذَا زَعَمَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَفْظٌ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَى جَعْلِ الطَّلَاقِ بِيَدِهَا.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ عِنْدَهُ نَصًّا اعْتَبَرَ فِيهِ النِّيَّةَ - فَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ يُغَلَّبُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَوْ دَعْوَى النِّيَّةِ - وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي التَّخْيِيرِ. وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَهُ مُنَاكَرَتَهَا فِي الْعَدَدِ (أَعْنِي: فِي لَفْظِ التَّمْلِيكِ، لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً مُحْتَمَلَةً فَضْلًا عَنْ ظَاهِرِهِ)، وَإِنَّمَا رَأَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بِتَمْلِيكِهِ إِيَّاهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً أَنَّهَا تَكُونُ رَجْعِيَّةً، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ. وَإِنَّمَا رَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا بَائِنَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ لَمْ يَكُنْ لِمَا طَلَبَتْ مِنَ التَّمْلِيكِ فَائِدَةٌ وَلِمَا قَصَدَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي التَّمْلِيكِ ثَلَاثًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ مُنَاكَرَتُهَا فِي ذَلِكَ: فَلِأَنَّ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ تَصْيِيرُ جَمِيعِ مَا كَانَ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنَ الطَّلَاقِ بِيَدِ الْمَرْأَةِ، فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ فِيمَا تُوقِعُهُ مِنْ أَعْدَادِ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ التَّمْلِيكَ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَقَطْ أَوِ التَّخْيِيرَ: فَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَاحْتِيَاطًا لِلرِّجَالِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي جَعْلِ الطَّلَاقِ بِأَيْدِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ هُوَ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِنَّ مَعَ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ لِقَوْلِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ، وَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ. فَيَتَحَصَّلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَاقٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَقَعُ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ.
وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ فِيمَا تُمَلَّكُ بِهِ الْمَرْأَةُ (أَعْنِي: أَنْ تَمْلِكَ بِالتَّخْيِيرِ الْبَيْنُونَةَ، وَبِالتَّمْلِيكِ مَا دُونَ الْبَيْنُونَةِ). وَإِذَا قُلْنَا بِالْبَيْنُونَةِ، فَقِيلَ: تَمْلِكُ وَاحِدَةً، وَقِيلَ تَمْلِكُ الثَّلَاثَ. وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهَا تَمْلِكُ وَاحِدَةً فَقِيلَ: رَجْعِيَّةٌ، وَقِيلَ: بَائِنَةٌ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُجِيبُ بِهَا الْمَرْأَةُ فِي التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ فَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى حُكْمِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي كَوْنِهَا صَرِيحَةً فِي الطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَةً أَوْ مُحْتَمَلَةً، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّكَلُّمِ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ.

.الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَرْكَانِ الطَّلَاقِ:

وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَشُرُوطِهِ.
الْبَابُ الثَّانِي: فِي تَفْصِيلِ مَنْ يَجُوزُ طَلَاقُهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ.
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي تَفْصِيلِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ مِنَ النِّسَاءِ مِمَّنْ لَا يَقَعُ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَشُرُوطِهِ:

وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ فَصْلَانِ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَنْوَاعِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقَةِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَنْوَاعِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْمُقَيَّدَةِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَنْوَاعِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقَةِ:

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ إِذَا كَانَ بِنِيَّةٍ وَبِلَفْظٍ صَرِيحٍ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَقَعُ بِالنِّيَّةِ مَعَ اللَّفْظِ الَّذِي لَيْسَ بِصَرِيحٍ، أَوْ بِالنِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ، أَوْ بِاللَّفْظِ دُونَ النِّيَّةِ. فَمَنِ اشْتَرَطَ فِيهِ النِّيَّةَ وَاللَّفْظَ الصَّرِيحَ فَاتِّبَاعًا لِظَاهِرِ الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الصَّرِيحِ، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْعَقْدِ فِي النَّذْرِ وَفِي الْيَمِينِ أَوْقَعَهُ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ، وَمَنْ أَعْمَلَ التُّهَمَةَ أَوْقَعَهُ بِاللَّفْظِ فَقَطْ. وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقَةَ صِنْفَانِ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ ألفاظ الطلاق المطلقة. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِ الصَّرِيحِ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَفِي أَحْكَامِهَا وَمَا يَلْزَمُ فِيهَا، وَنَحْنُ إِنَّمَا قَصَدْنَا مِنْ ذَلِكَ ذِكْرَ الْمَشْهُورِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ: فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: الصَّرِيحُ هُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ فَقَطْ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ كِنَايَةٌ، وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ظَاهِرَةٌ وَمُحْتَمَلَةٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَلْفَاظُ الطَّلَاقِ الصَّرِيحَةُ ثَلَاثٌ: الطَّلَاقُ، وَالْفِرَاقُ، وَالسَّرَاحُ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَا يَقَعُ طَلَاقٌ إِلَّا بِهَذِهِ الثَّلَاثِ. فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ صَرِيحِهِ. وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ صَرِيحٌ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ دَلَالَةٌ وَضْعِيَّةٌ بِالشَّرْعِ فَصَارَ أَصْلًا فِي هَذَا الْبَابِ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ فَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّرْعِ فِيهَا تَصَرُّفٌ (أَعْنِي: أَنْ تَدُلَّ بِعُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ)، أَوْ هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى دَلَالَتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى (أَعْنِي: فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ) كَانَتْ مَجَازًا، إِذْ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْكِنَايَةِ (أَعْنِي: اللَّفْظَ الَّذِي يَكُونُ مَجَازًا فِي دَلَالَتِهِ)، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا وَرَدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ عِبَادَةٌ، وَمِنْ شَرْطِهَا اللَّفْظُ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَصَرَ بِهَا عَلَى اللَّفْظِ الشَّرْعِيِّ الْوَارِدِ فِيهَا.
فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَحْكَامِ صَرِيحِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ مَشْهُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: اتَّفَقَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهَا.
وَالثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِيهَا.

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُطَلِّقِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الطَّلَاقَ؟

]:
فَأَمَّا الَّتِي اتَّفَقُوا عَلَيْهَا: فَإِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ، وَأَبَا حَنِيفَةَ قَالُوا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُطَلِّقِ إِذَا نَطَقَ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَلَاقًا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَكَذَلِكَ السَّرَاحُ وَالْفِرَاقُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَاسْتَثْنَتِ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنْ قَالَتْ: إِلَّا أَنْ تَقْتَرِنَ بِالْحَالَةِ أَوْ بِالْمَرْأَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ، مِثْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يُطْلِقَهَا مِنْ وَثَاقٍ هِيَ فِيهِ وَشِبْهِهِ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ. وَفِقْهُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْتَاجُ عِنْدَهُمْ إِلَى نِيَّةٍ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَهُ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، لَكِنْ لَمْ يُنَوِّهْ هَاهُنَا لِمَوْضِعِ التُّهَمِ، وَمِنْ رَأْيِهِ: الْحُكْمُ بِالتُّهَمِ سَدًّا لِلذَّرَائِعِ، وَذَلِكَ مِمَّا خَالَفَهُ فِيهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، فَيَجِبُ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَلَا يَحْكُمُ بِالتُّهَمِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيمَا ادَّعَى.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُطَلِّقِ أَنَّهُ أَرَادَ بِطَلَاقِهِ أَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ؟

]:
وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ: إِمَّا ثِنْتَيْنِ وَإِمَّا ثَلَاثًا، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مَا نَوَى، وَقَدْ لَزِمَهُ - وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - إِلَّا أَنْ يُقَيِّدَ فَيَقُولَ: طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: لَا يَقَعُ ثَلَاثًا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الْإِفْرَادِ، لَا كِنَايَةً وَلَا تَصْرِيحًا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالنِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ، أَوْ بِالنِّيَّةِ مَعَ اللَّفْظِ الْمُحْتِمِلِ؟
فَمَنْ قَالَ بِالنِّيَّةِ أَوْجَبَ الثَّلَاثَ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ وَرَأَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ فِي الطَّلَاقِ مَعَ النِّيَّةِ قَالَ: لَا يَجِبُ الْعَدَدُ وَإِنْ نَوَاهُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ (أَعْنِي: اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ مَعَ اللَّفْظِ، أَوْ بِانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا)، فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِاللَّفْظِ وَالنِّيَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَقَعُ بِاللَّفْظِ دُونَ النِّيَّةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ الصَّرِيحَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ. فَمَنِ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ النِّيَّةَ دُونَ اللَّفْظِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا». وَالنِّيَّةُ دُونَ قَوْلٍ حَدِيثُ نَفْسٍ، قَالَ: وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنِ اشْتَرَطَ النِّيَّةَ فِي الْعَمَلِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ كَافِيَةً بِنَفْسِهَا. وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ هَلْ يَقَعُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا طَلَاقٌ بَائِنٌ إِذَا قَصَدَ ذَلِكَ الْمُطَلِّقُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عِوَضٌ؟
فَقِيلَ يَقَعُ، وَقِيلَ لَا يَقَعُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ مَسَائِلِ أَحْكَامِ صَرِيحِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الطَّلَاقِ الَّتِي لَيْسَتْ بِصَرِيحٍ، فَمِنْهَا: مَا هِيَ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَمِنْهَا: مَا هِيَ كِنَايَةٌ مُحْتَمَلَةٌ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى فِي الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ طَلَاقًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هُنَالِكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَرَأْيِهِ فِي الصَّرِيحِ، وَكَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ عِنْدَهُ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُونِ الثَّلَاثِ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ فِي الْخُلْعِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَيُصَدِّقُهُ فِي الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ طَلَاقَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بَائِنٌ، وَهَذِهِ هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَمِثْلُ: الْبَتَّةَ، وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ: فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا نَوَاهُ، فَإِنْ كَانَ نَوَى طَلَاقًا كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ كَانَ نَوَى ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا، أَوْ وَاحِدَةً كَانَ وَاحِدَةً، وَيُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا نَوَى عَلَى أَصْلِهِ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ وَقَعَ عِنْدِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنِ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يُصَدَّقْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ فِي مُذَاكَرَتِهِ الطَّلَاقَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُطَلِّقُ بِالْكِنَايَاتِ كُلِّهَا إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا هَذِهِ الْقَرِينَةُ إِلَّا أَرْبَعَ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَاعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي، وَتَقَنَّعِي. لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنَ الْمُحْتَمَلَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الطَّلَاقِ الْمُحْتَمَلَةُ غَيْرُ الظَّاهِرَةِ: فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا نِيَّتُهُ، كَالْحَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ. وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا. فَيَتَحَصَّلُ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ أَنْ يُصَدَّقَ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَوْلٌ إِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ بِإِطْلَاقٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ قَرِينَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَوْلٌ إِنَّهُ يُصَدَّقُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي الْمَذْهَبِ خِلَافٌ فِي مَسَائِلَ يَتَرَدَّدُ حَمْلُهَا بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْمُحْتَمَلِ، وَبَيْنَ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ فَوَقَعَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذِهِ الْأُصُولِ. وَإِنَّمَا صَارَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَلَاقًا، لِأَنَّ الْعُرْفَ اللُّغَوِيَّ وَالشَّرْعِيَّ شَاهِدٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِنَّمَا تَلَفَّظَ بِهَا النَّاسُ غَالِبًا، وَالْمُرَادُ بِهَا الطَّلَاقُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا صَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ دُونَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ هُوَ الْبَيْنُونَةُ، وَالْبَيْنُونَةُ لَا تَقَعُ إِلَّا خُلْعًا عِنْدَهُ فِي الْمَشْهُورِ أَوْ ثَلَاثًا، وَإِذَا لَمْ تَقَعْ خُلْعًا - لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ عِوَضٌ - فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا، وَذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلِ فِي الْمَذْهَبِ بِأَنَّ الْبَائِنَ تَقَعُ مِنْ دُونِ عِوَضٍ وَدُونِ عَدَدٍ أَنْ يُصَدَّقَ فِي ذَلِكَ وَتَكُونَ وَاحِدَةً بَائِنَةً. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ فِي صَرِيحِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي كِنَايَتِهِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الصَّرِيحِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْكِنَايَةِ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَقُولَ الْمَالِكِيَّةُ إِنْ لَفَظَ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْعَدَدِ وَمِنَ الْحُجَّةِ لِلشَّافِعِيِّ حَدِيثُ رُكَانَةَ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ فِي: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ. وَإِنَّمَا صَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ إِذَا نَوَى مَا دُونَ الثَّلَاثِ يَكُونُ رَجْعِيًّا لِحَدِيثِ رُكَانَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَصَارَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ بَائِنًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ الْعِصْمَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ ثَلَاثًا لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْبَيْنُونَةِ عِنْدَهُ.
فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يُقَدَّمُ عُرْفُ اللَّفْظِ عَلَى النِّيَّةِ أَوِ النِّيَّةُ عَلَى عُرْفِ اللَّفْظِ؟
وَإِذَا غَلَّبْنَا عُرْفَ اللَّفْظِ: فَهَلْ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ فَقَطْ، أَوِ الْعَدَدَ؟
فَمَنْ قَدَّمَ النِّيَّةَ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِعُرْفِ اللَّفْظِ، وَمَنْ قَدَّمَ الْعُرْفَ الظَّاهِرَ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى النِّيَّةِ. وَمِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ (أَعْنِي: مِنْ جِنْسِ الْمَسَائِلِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ): لَفْظُ التَّحْرِيمِ (أَعْنِي: مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ)، وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: يُحْمَلُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا عَلَى الْبَتِّ (أَيِ: الثَّلَاثِ) وَيُنْوَى فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُهُ إِلَّا ابْنَ الْمَاجِشُونِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَتَكُونُ ثَلَاثًا، فَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِذَلِكَ ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، هِيَ كَذِبَةٌ، وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الثَّوْرِيُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا مَا نَوَى بِهَا، وَإِنْ نَوى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ، أَوْ ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ فِيهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ: فِي إِرَادَةِ الطَّلَاقِ وَفِي عَدَدِهِ، فَمَا نَوَى كَانَ مَا نَوَى، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً كَانَ رَجْعِيًّا، وَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَنْوِي أَيْضًا فِي الطَّلَاقِ وَفِي الْعَدَدِ، فَإِنْ نَوى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا كَانَ يَمِينًا، وَهُوَ مُولٍ، فَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّهَا يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ، إِلَّا أَنْ بَعْضَ هَؤُلَاءِ قَالَ: يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ذَهَبَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الْآيَةَ. وَالْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ كَتَحْرِيمِ الْمَاءِ، وَلَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَلَا طَلَاقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ وَالْأَجْدَعِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَمَنْ قَالَ فِيهَا إِنَّهَا غَيْرُ مُغَلَّظَةٍ: بَعْضُهُمْ أَوْجَبَ فِيهَا الْوَاجِبَ فِي الظِّهَارِ، وَبَعْضُهُمْ أَوْجَبَ فِيهَا عِتْقَ رَقَبَةٍ. وَسَبَبَ الِاخْتِلَافِ: هَلْ هُوَ يَمِينٌ أَوْ كِنَايَةٌ؟
أَوْ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا كِنَايَةٍ؟
فَهَذِهِ أَصُولُ مَا يَقَعُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ.